وضعت الصين منذ منتصف التسعينات من القرن العشرين خططاً طموحة لتطوير وتحديث قواتها البحرية، أي أنها تقوم بهذه الجهود على مدار ربع قرن، وأصبحت تمثل قوة بحرية هائلة في البحار القريبة من الصين، بل وأصبحت الصين، بشكل متزايد، تقوم بإرسال قواتها البحرية إلى المياه البعيدة عن حدودها، بما في ذلك غرب المحيط الهادئ والمحيط الهندي والمياه القريبة من الشواطئ الأوروبية. وأثار هذا الأمر قلق وهاجس الولايات المتحدة الأمريكية.
وتشمل جهود تحديث البحرية الصينية طائفة واسعة من السفن والطائرات، فضلاً عن برامج طموحة لاقتناء الأسلحة المتطورة، بالإضافة إلى تحسين قدرتها على القيام بخدمات الصيانة لهذه الأسلحة، وتوفير الخدمات اللوجستية لها، كما يطول التحديث العقيدة العسكرية البحرية، والارتقاء بالمستوى التدريبي للأفراد وخبرتهم. وما يعزز من قدرة الصين على النجاح في هذا المجهود هو إدراكها جيداً أن لديها حالياً بعض القيود ونقاط الضعف، والتي تعمل على التغلب عليها.
في هذه الدراسة، سوف يتم عرض الأهداف التي تتوخى بكين تحقيقها من تطوير قدراتها البحرية العسكرية، وكذلك أبرز خطط التحديث الصينية، إلى جانب تقييم لمدى قدرة القوات البحرية الصينية على تخطي نظيرتها الأمريكية، وأبرز التحديات التي تواجهها في هذا الصدد.
أهداف بكين الاستراتيجية
تسعى الصين إلى امتلاك قوات بحرية يمكن توظيفها في ردع التدخل العسكري الأمريكي، أو على أقل تقدير إبطائه، وتقليل من فاعليته، وذلك في حالة نشوب أي صراع بين الصين وأي دولة مجاورة في البحار القريبة من الصين، أو مع تايوان وبصورة أكثر تفصيلية يمكن توضيح أهداف بكين من تطوير قدراتها البحرية في التالي:
• تطوير القدرات العسكرية الصينية للتعامل مع أي تطورات طارئة في علاقاتها مع تايوان عسكرياً، إذا لزم الأمر.
• تحقيق درجة أكبر من السيطرة أو الهيمنة على البحار القريبة من الصين، ولاسيما بحر الصين الجنوبي والشرقي.
• فرض وجهة نظر الصين القائلة بأن لها الحق وحدها في تنظيم الأنشطة العسكرية الأجنبية في منطقتها الاقتصادية البحرية الخالصة (EEZ) التي يبلغ طولها 200 ميل بحري، بما يعنيه ذلك من تقليص وجود البحرية الأجنبية، خاصة الأمريكية فيها.
• الدفاع عن خطوط الاتصالات البحرية التجارية الصينية، ولا سيما تلك التي تربط الصين بالخليج العربي.
• أن تحل بكين محل نفوذ الولايات المتحدة في غرب المحيط الهادئ.
• تأكيد مكانة الصين كقوة إقليمية رائدة وقوة عالمية كبرى.
• أن تكون البحرية الصينية قادرة على العمل كجزء من القوة العسكرية الصينية الرامية لتنفيذ استراتيجية “منع الوصول / الحرمان من دخول منطقة” (Anti-access/Area-denial)، أي امتلاك قوات بحرية يمكن توظيفها في ردع التدخل العسكري الأمريكي، أو على أقل تقدير، إبطائه، وتقليل من فاعليته، وذلك في حالة نشوب أي صراع بين الصين وأي دولة مجاورة في البحار القريبة من الصين، أو مع تايوان.
• المشاركة في عمليات تأمين أعالي البحار، بما في ذلك المشاركة في جهود مكافحة القرصنة، وإجلاء المواطنين الصينيين من الدول الأجنبية عند الضرورة، كما في حالة نشوب صراعات في دولة يوجد بها رعايا صينيون، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات إنسانية، وامتلاك القدرة على التعامل مع الكوارث وتقليص تداعياتها.
1 - امتلاك حاملات الطائرات: تمتلك الصين حالياً حاملة طائرات من طراز “ليوانينج” (Liaoning)، وهي حاملة طائرات من طراز “تايب 001”، وهي في الأصل حاملة طائرات سوفييتية، تم بنائها في الثمانينات من القرن العشرين، غير أنه مع تفكك الاتحاد السوفييتي، تم بيعها إلى أوكرانيا، والتي استكملت بنائها، ثم اشترتها الصين، وكانت تستخدمها في البداية لأغراض التدريب، قبل أن تقرر بكين تحديثها، وتحويلها للقيام بأدوار قتالية، وقد دخلت الخدمة في عام 2019.
كما أن حاملتي الطائرات اللتان تمتلكهما الصين حالياً لديهما مدرج يأخذ شكل منصة “القفز التزلجي”، وهي منظومة إطلاق قديمة تفرض على المقاتلات حمل أسلحة أقل، وخزان مليء بالوقود.
كما تمكنت الصين من بناء أول حاملة طائرات صينية، وهي من طراز “آيه 001 شاندونج”، والتي يصل وزنها إلى 65 ألف طن، ويمكنها حمل 35 طائرة، مقارنة بـ 24 طائرة للحاملة الصينية الأولى، ويتوقع أن تتدخل الخدمة العام الحالي، كما تعمل بكين حالياً على بناء حاملة طائراتها الثالثة من طراز 002، والتي يبلغ وزنها 80 ألف طن، وسوف تكون قادرة على حمل 40 طائرة، وهي مزودة بتقنيات حديثة تسمح بحمل طائرات أكبر حجماً وأكثر سرعة، ويتوقع أن تدخل الخدمة بحلول 2022.
ويلاحظ أن حاملات الطائرات الصينية الصنع لا تعمل بالطاقة النووية. كما أن حاملتي الطائرات الأولى والثانية لديها مدرج يأخذ شكل منصة “القفز التزلجي”، وهي منظومة إطلاق قديمة تفرض على المقاتلات حمل أسلحة أقل، وخزان مليء بالوقود. وواجهت بكين مشاكل فنية جعلت حاملة الطائرات الثالثة التي تقوم ببنائها لا تعمل كذلك بالطاقة النووية. ويلاحظ أن امتلاك البحرية الصينية حاملات طائرات أدنى مستوى من نظيرتها الأمريكية، لن يغير موازين القوى بين سلاحي البحرية إلا هامشياً، خاصة وأن الولايات المتحدة تمتلك حالياً حوالي 11 حاملة طائرات، تفوق نظيرتها الصينية من حيث الإمكانية، وكذلك من حيث القدرة على استضافة عدد أكبر من المقاتلات على سطحها.
2 –تحديث سفنها العسكرية: شرعت بكين في تطوير سفنها العسكرية، وقدرت مؤسسة راند العسكرية الأمريكية أن أكثر من 70 ٪ من الأسطول العسكري الصيني قد تم تحديثه بحلول عام 2017، وذلك مقارنة بأقل من 50 ٪ من أسطولها البحري في عام 2010.
وقامت الصين بدءاً من عام 1996 بشراء أعداد كبيرة من المدمرات الحديثة والفرقاطات، وحصلت البحرية الصينية على أول مدمرتين روسيتين من طراز “سوفريميني” في عام 2000، كما حصلت على مدمرتين أحدث من نفس النوع في عام 2005، ويمكن تزويد هذه المدمرات بصواريخ متقدمة روسية مجنحة مضادة للسفن، الأسرع من الصوت، مثل صاروخ “أس أس – إن – 22 صن بيرن” (SS-N-22 Sunburn).
3 –تعزيز أسطولها من الغواصات: سعت بكين لزيادة عدد الغواصات التي تمتلكها، وذلك عبر شراء الغواصات التي تعمل بالديزل أو الغواصات النووية من الخارج، فقد حصلت على ثماني غواصات روسية تعمل بالديزل من طراز “كيلو تايب 636”، والتي يمكن تسليحها بالصواريخ المجنحة المضادة للسفن من طراز “أس أس – إن – 27 سيزلر” (SS-N-27 Sizzler). وتمتلك الصين حالياً حوالي أربع غواصات نووية قادرة على حمل صواريخ باليستية نووية، وذلك مقارنة بحوالي 18 غواصة نووية أمريكية قادرة على حمل صواريخ باليستية ذات رؤوس نووية. أما فيما يتعلق بالغواصات المهاجمة، فإن الصين تمتلك حوالي 54 يعمل أغلبها بالديزل، في حين أن الولايات المتحدة تمتلك حوالي 51 من هذا النوع، وتعمل جميعها بالوقود النووي.
وإلى جانب ما سبق، تعمل الصين على تصنيع غواصات مسيرّة متعددة المهام، إذ تقوم بمهام الاستطلاع، والبحث عن الألغام، وتدمير سفن العدو. وخلافاً لغيرها من الغواصات المسيرة، فإن الغواصة الصينية لا تقل حجماً عن نظائرها المأهولة. وتستوعب حجرة الشحن في الغواصة العديد من الصواريخ والطوربيدات، كما أن مخزون الوقود يكفي لعدة أشهر من الإبحار.
ويلاحظ أن الغواصة المسيّرة سوف تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، إذ لن تحتاج إلى مشّغل لتسييرها، إذ ستقوم الغواصة بتحديد طريقة تنفيذ المهمة بدراسة المسار والعمق وتحديد نوع وملكية المركبات، التي تأتي في مسارها وكيفية تجنب المخاطر.
4 –تطوير نظم كشف الغواصات المعادية وتدميرها: تطور الصين قدراتها في مجال اكتشاف الغواصات المعادية ومطاردتها، وتوظف عدة أساليب للقيام بذلك، إذ يطور الجيش الصيني أقمار صناعية تعمل بالليزر، لكشف الغواصات المعادية، التي تبحر على أعماق تصل إلى 160 متراً تحت سطح الماء، ويمثل هذا العمق ضعف العمق، الذي يمكن لأجهزة الرصد الحالية الوصول إليه. وتهدف الصين إلى توظيف هذه التكنولوجيا الجديدة لرصد الغواصات الأمريكية في البحار والمحيطات.
كما تخطط بكين لامتلاك القدرة على تنفيذ هجمات مدمرة انطلاقاً من قاع البحر، باستخدام الغواصات المسيّرة، التي تعتمد في تصميمها على أنظمة الذكاء الاصطناعي. وتسعى بكين لتوظيف تلك المركبات الروبوتية للتغلب على نقاط ضعف الأسطول الصيني، في أي مواجهة مستقبلية مع الجيش الأمريكي، خاصة وأن هذه النوعية من المركبات الجديدة ستعمل على أعماق كبيرة، وستكون عملية اكتشافها أكثر صعوبة مقارنة بغواصات الديزل والغواصات النووية، التي ينتج عنها ضوضاء كبيرة خلال الحركة.
تطوير متسارع وتحديات قائمة
أكد الرئيس السابق للقيادة الأمريكية في المحيط الهادئ، الأدميرال هاري هاريس، أمام إحدى لجان الكونجرس الأمريكي العام الماضي، إنه بحلول عام 2020، ستتباهى بحرية جيش التحرير الشعبي الصيني بامتلاكها سفن حربية وغواصات أكبر مما تمتلكها البحرية الروسية. كما يعتقد بعض خبراء البحرية الأمريكية أن الصين يمكن أن تحقق تكافؤاً مع البحرية الأمريكية من حيث أعداد ونوعية السفن الحربية السطحية الرئيسية بحلول عام 2030، أي خلال عقد من الآن.
يعتقد بعض خبراء البحرية الأمريكية أن الصين يمكن أن تحقق تكافؤاً مع البحرية الأمريكية من حيث أعداد ونوعية السفن الحربية السطحية الرئيسية بحلول عام 2030، أي بعد عقد من الآن. ويشير تقدير آخر خاص بمكتب الاستخبارات البحرية أنه في نهاية عام 2020، سيكون لدى الصين 360 سفينة حربية، مقارنة بإجمالي يبلغ 297 قطعة للبحرية الأمريكية في نهاية السنة المالية 2020.
وعلى الرغم من هذه التقييمات، فلاتزال مساعي الصين لتعزيز قدراتها العسكرية تواجه تحديات، على الرغم من تمكنها من تحقيق نجاحات كبيرة، ويمكن إجمالي أبرز تحديين في التالي:
1 –عجز بكين عن تصنيع بعض المنظومات العسكرية المتقدمة: لاتزال الصين تستورد بعض المعدات العسكرية المتخصصة، مثل محركات الطائرات، ومن ذلك المحرك “آيه إل – 31” الروسي. ولم تنجح المحركات الصينية أن تبلغ كفاءة نظيرتها الروسية، وذلك على الرغم من وجود اتهامات لبكين بنسخ تصميمات الأسلحة الروسية والأمريكية ودول أخرى دون إذن، بالإضافة إلى عجزها، حتى الآن، على تطوير حاملات طائرات تعمل بالوقود النووي.
2 –خطط واشنطن المضادة: تدرك واشنطن جيداً الجهود الصينية المتسارعة لتحديث قوتها البحرية، والأهداف التي تبتغي تحقيقها من وراء ذلك، ولذلك شرعت في تبني تدابير مضادة، ومنها تحويل البحرية الأمريكية نسبة أكبر من أسطولها للعمل في المحيط الهادئ، بالإضافة إلى نشر أحدث سفنها وطائراتها الأكثر تطوراً، وأكثر أفرادها كفاءة إلى المحيط الهادئ.
ومن جانب آخر، شرعت البحرية الأمريكية في تطوير مفاهيمها التشغيلية الجديدة، أي ابتكار طرق جديدة لتوظيف القوات البحرية وقوات مشاة البحرية، لمواجهة استراتيجية القوات البحرية الصينية ممثلة في استراتيجية “منع الوصول / الحرمان من دخول منطقة”، كما تخطط واشنطن لإحداث تحوّل في بنية الأسطول الأمريكي، بحيث تضم جزءاً أصغر من السفن الأكبر حجماً، وجزءاً أكبر من السفن الأصغر، بالإضافة إلى التوسع في استخدام أكبر بكثير للمركبات غير المأهولة.
وفي الختام، يمكن القول إن الصين قد تتمكن خلال عقد من الزمان من أن تناظر القوات البحرية الأمريكية، من حيث العدد والقوة والكفاءة، غير أن واشنطن تدرك ذلك جيداً، وتعمل على التحسب له، ولذلك، فإن استمرار الصراع والتنافس العسكري بين بكين وواشنطن سوف يحتدم خلال العقد القادم، لتحديد من ستكون له اليد العليا في البحار القريبة من الأراضي الصينية والبعيدة عنها.
»الدكتور/ شادي محمد )خبير متخصص في الشؤون الأمنية (