سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:
المُهَلّب بن أبي صفرة الأزدي، ولد سنة 8 هـ، استعمله الحجاج عاملاً على خراسان، وقام بفتوحات واسعة في بلاد ما وراء النهر، حتى فرض سيطرة الدولة الأموية على أراض كثيرة، وكان لها أكبر الأثر في إثراء الحضارة الإسلامية، وقد برز في تلك المناطق علماء ومفكرون، أمثال الخوارزمي والبخاري.
نسبه وولادته
ينتسب المهلب بن أبي صفرة إلى قبيلة أزد عُمان، وذكر الواقدي أن قومه ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فهُزموا في حرب الردة ووقعوا في الأسر، قال: «لما قدم سَبْيُ أهل دبا، وفيهم أبو صفرة غلام لم يبلغ الحلم، فأنزلهم أبو بكر في دار رملة بنت الحارث، وهو يريد أن يقتل المقاتلة، فقال له عمر: يا خليفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قوم مؤمنون، إنما شحوا على أموالهم، فقال: انطلقوا إلى أي البلاد شئتم، فأنتم قوم أحرار، فخرجوا فنزلوا البصرة، فكان أبو صفرة والد المهلب فيمن نزل البصرة».
يذكر ابن حجر العسقلاني أن والده من مدينة دبا التي حدثت بها إحدى معارك حروب الردة، حيث نزحت قبيلة الأزد من اليمن لتتوزع على شكل جماعات في معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية، واستقر جزء منها بإقليم عُمان ليعرفوا بأزد عُمان. وفي بادئ الأمر استقرت أسرة المهلب بن أبي صفرة في دبا، ثم خرجوا منها لينتهي بهم المطاف إلى الاستقرار في البصرة.
بداياته وحتى نهاية عهد يزيد بن معاوية
كانت أول إشارة في كتب التاريخ عن المهلب هي أثناء مشاركته مع الجيش تحت إمرة عبد الرحمن بن سمرة لغزو سجستان، وشارك بعدها بعامين بغزو ثغر السند، وغزا وغنم في بلاد الهند سنة 44هـ.
خرج المهلب بن أبي صفرة للغزو مع والي خراسان الجديد، سَلَمْ بن زياد، في زمن يزيد بن معاوية، وتجهز سَلَم في جحفل عظيم ليغزو بلاد الترك، وكان المسلمون قبل ذلك لا يشتّون في تلك البلاد، فشتّى بها سَلَم بن زياد، وبعث المهلب بن أبي صفرة إلى خوارزم إحدى مدن الترك، فحاصرهم حتى صالحوه على مبلغ كبير، وكان يأخذ منهم عروضاً عوضاً، فيأخذ الشيء بنصف قيمته، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظى بذلك المهلب عند سَلَم بن زياد. وتعتبر تلك الغزوة بداية انتصارات كبيرة حققها المسلمون في نواحي سمرقند. حتى تمكنوا من هزيمة خاتون ملكة بخارى والتي كانت قد تحالفت مع طرخون ملك الصغد للتصدي للمسلمين، إلا أن المسلمين تمكنوا في نهاية الأمر من تحقيق النصر مما جعلها تضطر لطلب الصلح معهم، فصالحوها على أموال كبيرة دفعتها لهم.
وبعد وفاة يزيد بن معاوية، اختلف الناس بخراسان، وعمّت الفوضى والفراغ السياسي في الدولة، مما أسهم في اضطراب أقاليم الأطراف أكثر فأكثر، وتأجج العصبية القبلية في البلاد عامة وفي خراسان على وجه التحديد، ورفض القيسية قبول إمارة اليمانية. ونتيجة للأوضاع المضطربة أولاً، ورغبةً من المهلب أن ينأى بنفسه عن الصراعات القبلية ثانياً، ترك خراسان بعد أن استخلف عليها وعاد إلى البصرة.
زمن خلافة عبدالله بن الزبير
بعد وفاة يزيد بن معاوية سنة 64 هـ، طالب عبدالله بن الزبير بالخلافة، ودعا إلى نفسه، فبايعه أهل الحجاز وأتته بيعة الكوفة والبصرة وخراسان واليمن ومعظم الشام. وفي سنة 65 عهد ابن الزبير إلى المهلب بولاية خراسان، وعند وصول المهلب إلى البصرة في طريقه لخراسان كانت المنطقة تعاني هجمات متزايدة قام بها الأزارقة مستغلين أوضاع البلاد.
وكانت حركة الخوارج في ذلك الوقت تشكل خطراً كبيراً على الدولة، وكانت الأزارقة من أشد فرقهم بقيادة نافع بن الأزرق الذي انضم مع أصحابه إلى ثورة ابن الزبير، ثم فارقوه عندما لم يجدوه على رأيهم. وقد انتشر الخوارج في البصرة والأهواز وما وراء بلاد فارس حتى عظم أمرهم. ولما وصلت أخبار توجه الأزارقة إلى البصرة، أصاب أهلها الهلع، فرحل كثير منهم ولجأ قسم إلى الأحنف بن قيس لإنقاذ الأمر الذي ذهب بدوره إلى والي البصرة الحارث بن عبدالله، واتفقا على اختيار المهلب لحربهم، لكنهم احتاروا في كيفية إقناع المهلب بالحرب إلى أن قاموا بالكتابة على لسان ابن الزبير. فأُتي بذلك الكتاب، فلما قرأه قال: «فإني والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه، وتعطوني من بيت المال ما أقوي به من معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت»، وافق أهل البصرة على طلب المهلب، وجهز جيشه حتى طرد الأزارقة وأخرجهم من البصرة، فلم يقاتلهم إنسان قط كان أشد عليهم ولا أغيظ لقلوبهم منه.
أهم ملامح شخصيته
ظهرت عليه علامات الشجاعة والذكاء وهو صبي، يروى أن والد المهلب ذهب يوماً مع عشرة من أبنائه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وكان المهلب أحدهم، فأعجب الخليفة بذكائه وتقواه وقال لوالده: «هذا سيدُ ولدِك».
كان المهلب بن أبي صفرة يتمتع بالقدرة على القتال وإدارة المعارك بكفاءة، فهو الذي مهَّد لفتح السند، وهو الذي ظل يحارب الخوارج طوال تسع عشرة سنة حتى قضى على شوكتهم.
ووقف له رجل فقال: «أريد منك حويجة»، تصغير حاجة، فقال المهلب: «أطلب لها رجيلاً». تصغير رجل، يعني أن مثلي لا يسأل إلا حاجة عظيمة. وكان المهلب يوصي خدمه أن يقللوا من الماء ويكثروا من الطعام عندما يكون ضيوفه على خوانه حتى لا يملأ الضيوف بطونهم بالماء وحتى يملؤوها من الطعام.
ومن أخبار حلمه أنه مر يوماً بالبصرة، فسمع من يقول: «هذا الأعور قد ساد الناس، ولو خرج إلى السوق لا يساوي أكثر من مائة درهم»، فبعث إليه المهلب بمائة درهم وقال: «لو زدتنا في الثمن زدناك في العطية»، وكان قد فقئت عينه بسمرقند.
وكان بليغاً حكيماً في آرائه، له كلمات لطيفة وإشارات مليحة. ومن ذلك حين حضرته الوفاة، دعا إليه ابنه (حبيب) ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت ثم قال: «أفترونكم كاسريها مجتمعة؟» قالوا لا، قال: «فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تنسئ في الأجل وتثرى المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا وتباروا تجتمع أموركم».
وقد أثنى عليه الصحابة رضوان الله عليهم، لما وجدوا فيه من كريم الخلال، فقد قال عبدالله بن الزبير عن المهلب «هذا سيد أهل العراق».
وقال عنه قُطْري بن الفجاءة: «المهلب من عرفتموه: إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه ويرسله إذا مددتموه، ولا يبدؤكم إلا أن تبدؤوه». وقال عنه أبو إسحاق السبيعي: «لم أر أميراً أيمن نقيبة ولا أشجع لقاء ولا أبعد مما يكره ولا أقرب مما يحب من المهلب».
روي أنه قدم على عبدالله بن الزبير أيام خلافته بالحجاز والعراق وهو يومئذ بمكة، فخلا به عبدالله يشاوره، فدخل عليه عبدالله بن صفوان بن أمية بن خلف فقال : «من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين في يومك هذا؟» قال: «أو ما تعرفه؟» قال: «لا»، قال: «هذا سيد أهل العراق»، قال: «فهو المهلب بن أبي صفرة»، قال: «نعم»، فقال المهلب: «من هذا يا أمير المؤمنين؟» قال: هذا «سيد قريش»، فقال: «فهو عبدالله بن صفوان»، قال: «نعم».
وفاته
عزل الحجاج أمية بن عبدالله عن خراسان، واستعمل عليها المهلب بن أبي صفرة، وهو آخر من ولي خراسان من جهة الحجاج بن يوسف الثقفي، ولم يزل المهلب والياً على خراسان حتى أدركته الوفاة هناك، ولما حضره أجله عهد إلى ولده يزيد وأوصاه بقضايا وأسباب، ومن جملة ما قال له: «يا بني، استعقل الحاجب، واستظرف الكاتب، فإن حاجب الرجل وجهه وكاتبه لسانه»، توفي سنة ثلاث وثمانين للهجرة، بقرية من ولاية خراسان.
إعداد: نادر نايف محمد