أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية Florence Parly بمناسبة منتدى الابتكار في مجال الدفاع العسكري (FID) في شهر نوفمبر من العام الماضي 2021، عن مشروع Myriade (لا يعد ولا يحصى)، والذي سيقوده «الفريق الأحمر»، وهو مجموعة من مؤلفي الخيال العلمي بجانب عسكريين وضعوا خيالهم في خدمة هيئة الأركان العامة الفرنسية، لاستشراف المخاطر المحتملة الناتجة عن الأساليب المتعددة للتلاعب بالرأي العام، وهكذا استشراف سيناريوهات التهديدات والحروب المستقبلية.
وتعد هذه هي الخطوة الأولى للجيش الفرنسي نحو الاستعداد لما بات يسمي «الحرب المعرفية»، وهي الشكل الرئيسي لحروب المستقبل بحسب الأدبيات الحديثة حول موضوع حروب المستقبل. ما هو تعريف الحرب المعرفية أو الإدراكية؟ وما هي أشكالها وأهدافها؟ ما هو «الفريق الأحمر»؟ وممن يتكون؟ وما هي آليات عمله؟ وما هي النتائج المرجوة منه من قبل وزارة الدفاع الفرنسية؟ تحاول الدراسة الإجابة عن تلك الأسئلة.
الحرب المعرفية..أشكالها وأهدافها
مما لا شك فيه أن سرعة ومدى انتشار المعلومات بشكل كبير في عالم اليوم من خلال الابتكارات والتطورات التكنولوجية، قد أثر تأثيراً هائلاً على المشهد الجيوسياسي للعالم، وذلك دون اللجوء للحروب العسكرية بالمعني التقليدي. ففي هذا السياق، تستخدم الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية التكنولوجيا وعلم النَّفْس لشن ما بات يعرف بالحرب المعرفية أو الإدراكية على دول أو جهات أو مؤسسات تصنفها في خانة الأعداء أو المنافسين والذين لا يكونون في غالب الأمر مستعدين لمثل هذه التكتيكات وحجمها.
لقد غيرت الحرب المعرفية أو الإدراكية مفهوم الصراع وأضحت الشكل الرئيسي لحروب وصراعات المستقبل، فمن خلالها أصبح من اليسير استهداف الثقة التي تشكل الركيزة الأساسية لـ «القوة الإستراتيجية» لدولة ما، وذلك باستخدام الحد الأدنى من الموارد وضمان تحقيق الحد الأقصى من النتائج المستهدفة. فالحرب المعرفية أو الإدراكية تسعي لخلق تناقضات بين الدولة والمجتمع من جانب، وبين الجماعات والفئات المكونة للمجتمع من جانب آخر، باستغلال كل الوسائل، لإحداث الخلل في تلك العلاقة التي هي الحبل السري لرأس المال الاجتماعي (بمعنى مستوى الثقة والانتماء بين أبنـاء المجتمـع وقـدرتهم عـلى العمل جنباً إلى جنب لتحقيق أهداف مشتركة)، وذلك «بهدف هدم الدولة المعادية من خلال احتلال العقول لا الأرض أو إضعاف الدولة على أقل تقدير، ليتم فرض الإرادة الخارجية وإملاء الشروط عليها، وهو ما كانت تحققه القوات العسكرية، ولكن بخسائر أكبر بكثير من استهداف رأس المال الاجتماعي بواسطة الحرب المعرفية أو الإدراكية». مما أدى لتحول شكل الصراعات من «الحروب المسلحة» إلى «حروب السيطرة على أذهان الجمهور المستهدف» وذلك من خلال تغذية كرهه للسلطة السياسية الحاكمة، أو تخريب العملية الديمقراطية، أو إثارة الاضطرابات العرقية أو الإثنية أو الدينية، أو تحريض ودعم الحركات الانفصالية. ويتم ذلك من خلال تعزيز ما يسمى بالتحيزات المعرفية، وهي ظواهر نفسية تجنح لتغير المعلومات التي تلتقطها الحواس وتشوه الواقع والتي يشرحها بالتفصيل Daniel Kahneman عالم النفس الحاصل على جائزة نوبل من خلال تحليله لكيفية عمل العقل عند اتخاذ القرارات مقسماً التفكير البشري إلى نوعين: سريع (النظام 1) والذي من خلاله، يتم التوصل إلى الاستنتاجات تلقائياً دون الكثير من التفكير والتمعن فهو لا يتطلب جهداً ذهنياً ويخلق المشاعر الخاطئة، والتفكير البطيء (النظام 2) وهو تفكير مدروس وعقلاني، يرتكز على الأنشطة العقلية التي تتطلب المزيد من الجهد، ويتم تنشيطه وتنميته فقط من خلال الأنشطة التي تتطلب مجهوداً عقلياً. ووفقاً لـ Daniel Kahneman، فالنمط الأول من التفكير هو الذي يسود العالم، فمعظم البشر جُبِلوا على ارتكاب أخطاء بسبب التحيزات المعرفية وأبرزها: تأثير الهالة (تعميم خاطئ يقوم على تصورات زائفة)، الاستدلال الاحتمالي (الميل إلى إعطاء قيمة أكبر للمعلومات التي تبدو معروفة أو المشحونة عاطفياً)، تحيز الإدراك المتأخر (الانجراف للنتائج النهائية للموقف)، تأثير المرساة (التمسك بالمعلومات المعروفة واتخاذها كمرجع، حتى لو لم تكن لديها أي منطق)، تأثير السحب أو تأثير القطيع (انجراف الناس برأي أو حكم سائد)، التحيز التأكيدي أو الانتقائي (البحث دائماً عن المعلومات التي تؤكد معتقدات المرء ورفض كل ما يعارض ذلك حتى ولو كان أكثر منطقية)، الثقة الزائدة (اتخاذ القرارات بناءً على رأيك وحدسك فقط وإهمال التعلم المستمر وتنويع مصادر المعرفة)، النفور من الخسارة (الكثير من السلوك البشري يمليه الخوف من الخسارة، مما يعني أنه من الأفضل المخاطرة لتجنب الخسارة، بدلاً من جني الأرباح. ألم الخسارة أكبر بمرتين من متعة الفوز). وأكد عالم الاجتماع جيرالد برونر في كتابه (Apocalypse cognitive) نهاية العالم المعرفي تلك الأخطاء التي جُبِلَ العقل البشري على ارتكابها بسبب التحيزات المعرفية.
وإذا أضفنا لتلك الفخاخ المعرفية قانون براندوليني Brandolini’s law الذي بموجبه تكون «كمية الطاقة اللازمة لدحض الهراء أكبر بكثير من تلك المطلوبة لإنتاجه»، فالهراء يصبح له ميزة تنافسية في السوق المعرفي على الحقيقة، لأن استعادة الحقيقة غالباً ما تكون أكثر تكلفة من إنتاج الهراء. وهو ما كان قد استشرفه، بشكل آخر Alexis de Toqueville (المؤرخ والمنظر السياسي الفرنسي الشهير وصاحب كتاب «في الديمقراطية الأمريكية») وبات مؤكداً وهو أن «الفكرة الخاطئة ولكن الواضحة سيكون لها دائماً قوة أكبر في العالم من فكرة حقيقية ولكنها معقدة»، والحقيقة غالباً ما تكون معقدة. كما أن المعلومات المضللة، تنتشر «أسرع وأعمق وأوسع» من المعلومات الحقيقية، فيقول عالم الاجتماع جيرالد برونر الذي عينه الرئيس الفرنسي ماكرون رئيساً للجنة مكافحة التضليل المعلوماتي، إن المعلومات الخاطئة أسرع بست مرات وتتم مشاركتها وإعادة مشاركتها أكثر من المعلومات الحقيقية، وأنه من واجب الدولة أن تخصّص هيئة تهدف إلى تحديد الحقيقة بالاستناد إلى الإجماع العلمي، وإن المساواة بين كلمة بروفسور جامعي وناشط سياسي هو أمر غير مقبول.
وما يزيد الأمر تعقيداً، أن الانطباع الأول الذي تولده المعلومات المضللة لا يتلاشى بسرعة حتى عندما يعلم الشخص أنها خاطئة بالفعل. وهكذا يمكن لهذه العوالم الافتراضية التي تُبنى على «الترهات كحقائق بديلة»، أن تمحو «الحياة الواقعية الحقيقة». كما أن الحرب المعرفية أو الإدراكية تعتمد بالأساس على نهج متعدد التخصصات يجمع بين العلوم الاجتماعية والتقنيات الجديدة للسيطرة على المعرفة وبالتالي السيطرة على اتخاذ القرار بشكل يؤدي إلى زعزعة استقرار الخصم أو شله. بعبارة أخرى، تهدف المعرفية أو الإدراكية إلى اختراق العقل البشري في محاولة «لكسب الحرب قبل الحرب»، كما أكد رئيس أركان الجيش الفرنسي الجنرال Thierry Burkhard. «العقل البشري أصبح ساحة معركة القرن الحادي والعشرين» كما يؤكد جيمس جيوردانو، وهذا ليس بجديد على الديالكتيك الاستراتيجي لأن العمل على العقل كان دائماً عنصر الهيكلة في ذلك المجال. ومن المتعارف عليه الاستراتيجية هي، قبل كل شيء، «علم الآخر»، بهدف الوصول إلى فهم عقل الخصم وحتى التلاعب به. فلطالما كان ذلك مهماً لكسب المعارك والحروب، كما يتضح من مثال نجاح المستشار الألماني بسمارك في إقناع نابليون الثالث بخوض حرب غير حكيمة وهي الحرب الفرنسية البروسية، مما أدى في النهاية إلى انهيار الإمبراطورية الفرنسية الثانية.
الحرب المعرفية إذاً هي «عملية تضليل معرفية ونفسية» للتوجيه والحشد العام. لتصنيع تصدعات في الانسجام المجتمعي وللإضرار بالثقة في المؤسسات، وذلك من خلال نشر معلومات مغرضة وأخبار مزيفة وتضخيمها عن قصد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإنترنت والتسريبات ومقاطع الفيديو، فضلاً عن الصور المقتطعة من خارج سياقها والرسوم الكاريكاتورية بغرض اكتساب ميزة تنافسية على الخصم. وذلك بالتأثير وربما التحكم في أفكار وتصورات وبالتالي في أفعال شريحة كبيرة من مكوناته.
وفي النهاية يجب أن نؤكد أن الحرب المعرفية أو الإدراكية، بمعني التأثير على عملية صنع القرار لدى الخصم، وإرباكه، وشل حركته في النهاية من أجل الفوز عليه، لا تمثل ثورة جذرية في عالم الحروب. ومع ذلك، فهي أكثر من مجرد شراب قديم في زجاجات جديدة، فهي تتميز أولاً بكونها تركز أكثر من ذي قبل على استغلال نقاط ضعف العقل البشري، وثانياً الجمع بين حرب المعلومات والعمليات السيبرانية الهجومية والعمليات النفسية لترهيب الخصم والتأثير والتلاعب به لإكراهه لإرادة من يستخدمها حتى «قبل الحرب». ولذا يتوجب فقط دمجها بشكل أفضل في العمليات البرية والبحرية والجوية والفضائية والإلكترونية للجيوش.
وهو ما فعله حديثاً حلف الناتو، نظراً لإدراكه الحديث:
1 - أن محاولات الخصم التلاعب بالسلوك البشري ستشكل تحدياً مستمراً لدفاع وأمن دول الحلفاء، وأن هذا التهديد الناشئ، وهو الشكل من الحرب، يتجاوز مجرد التحكم في تدفق المعلومات. فالحرب المعرفية أو الإدراكية لا تسعى فقط إلى تغيير ما يفكر فيه الناس، ولكن أيضاً في كيفية تصرفهم.
2- أن الهجمات على المجال المعرفي تتطلب تكامل علم التحكم الآلي والمعلومات المضللة وعلم النفس وقدرات الهندسة الاجتماعية، وهي بذلك تمثل تحدياً كبيراً أمام بيئة تشغيل صانعي القرار التقليدية وقدرتهم على اكتشاف الهجمات ضد المجال المعرفي لبلدانهم أو مؤسساتهم وكيفية مواجهتها.
3- أن ساحة المعركة والمجال المتنازع عليه في الحرب المعرفية هي العقل البشري، فهدف تلك الحرب يكمن في زرع التنافر وإثارة الروايات المتناقضة واستقطاب الرأي العام وتطرف الجماعات وجعل الناس يتصرفون بطرق يمكن أن تعطل أو تفكك مجتمعاً متماسكاً، وذلك للتأثير في عملية صنع القرار، وتغيير السياسات ورؤى العالم، والتسبب في انعدام الثقة بين الحلفاء.
لمواجهة كل ما سبق أطلق حلف الناتو نداءً للمفكرين غير التقليديين والمبتكرين الذين يعملون في القطاع الخاص أو العام أو في الأوساط الأكاديمية من جميع الدول الأعضاء في الناتو للتفكير معه في طرق لتأمين المجال المعرفي للدول الأعضاء في حلف الناتو من الهجوم والتعدي عليه، وللبحث عن تقنيات وتدابير جديدة لمواجهة الحرب التي تشن على عقل مواطني تلك الدول.
نظراً لخطورة الحرب المعرفية التي يمكنها الآن استهداف جماهير متعددة في وقت واحد لخلق تأثيرات استراتيجية على الخصم، لم تتأخر وزارة الدفاع الفرنسية عن ركب حلف الناتو، فأطلقت وكالة الابتكار في وزارة الدفاع الفرنسية مؤخراً مشروعاً يسمى MYRIADE وذلك لاستكشاف التقنيات الجديدة المتعلقة بالحرب المعرفية وبذل الجهود اللازمة لتأمين «اتخاذ القرار الفرنسي» وتحقيق مستوى كافٍ من «الأمن المعرفي الجماعي» (بمعني تأهيل سكان متعلمين ومستعدين بشكل أفضل، وقادرين على الدفاع عن أنفسهم ضد «السرديات المُسلَّحة» و«الهجمات المعرفية»). وعلى المستوى العسكري، يستهدف المشروع «كسب الحرب قبل الحرب»، وذلك بأن تصبح القوات المسلحة الفرنسية أكثر تأهيلاً لصد العدوان المعرفي وأكثر استعداداً لاستهداف عقل الخصم بدورها. وبشكل أكثر تحديداً، يسعي المشروع لتكييف القيادة العسكرية بشكل أفضل مع البعد المعرفي للحرب متعددة المجالات، والجمع بشكل متناغم بين العقل البشري والتقنيات الرقمية لتكون قادرة على المفاجأة دون أن تُفاجأ. في السطور القادمة سنحاول سبر غور ذلك مشروع MYRIADE بالتركيز على «الفريق الأحمر» الذي يعتبر قلب وعقل هذا المشروع وذلك بالكشف عن بعض العاملين به وبعض آليات عمله والمنتظر تحقيقه منه.
«الفريق الأحمر»..مكوناته وآليات عمله والنتائج المرجوة منه
يدرك الفرنسيون أنهم متأخرون في مجال الحرب المعرفية بالمقارنة بالصينيين الذين أدركوا منذ زمن أن الحرب الإدراكية هي «المضمار النهائي للمواجهة العسكرية بين القوى الكبرى»، وبالمقارنة بالروس الذي صك جنرالهم ورئيس أركان جيشهم Valery Gerasimov مصطلح New Generation Warfare والذي يؤكد من خلاله على أن العلاقات بين الدول حالياً هي مناطق رمادية تطمس فيها الخطوط الفاصلة بين حالة السلم وحالة الحرب، وبين التحالف والعداء، وبين التعاون والتنافس، حتى تصبح هذه الثنائيات غير مميزة بعضها عن بعض. فمن الآن فصاعداً، أصبح Day Zero هو صباح كل يوم جديد، فيما بات يُعرف بعقيدة جيراسيموف The Gerasimov doctrine، والتي تنطوي على أن هناك مجموعة من الأدوات غير التقليدية وغير العسكرية هي التي يشن بها الحروب الراهنة، أبرزها الحرب المعرفية أو الإدراكية والتي تعتبر شكلاً من أشكال الحرب «قبل الحرب». كما تقوم تلك العقيدة بالأساس على فكرة أن قواعد الحرب قد تغيرت بشكل كبير، وأنه قد تنامى بشكل كبير دور الوسائل غير العسكرية اللازمة لتحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية، وأنه في كثير من الحالات قد تجاوزت قوة هذه الوسائل قوة الأسلحة التقليدية للجيوش من حيث فعاليتها، وأنه لم يعد هناك إعلان للحروب، وأصبحت الحروب تبدأ وتستمر وتنتهي دون أن يعلم بها العامة، وذلك لأنها تدور وفقاً لنهج وقوالب غير مألوفة، كما حدث على سبيل المثال فيما سمي بالربيع العربي.
وفي يناير 2021، اعتبرت وزارة الدفاع الفرنسية من خلال بيان تحديثها الاستراتيجي أن التلاعب بالمعلومات بات عنصراً أساسياً في استراتيجيات الحرب المعرفية التي ينفذها خصوم فرنسا، وذلك بغرض إرباكها أو التأثير على قرارتها أو شل حركتها. وفي هذا الصدد أكدت وزيرة الدفاع الفرنسية Florence Parly، في 20 أكتوبر 2021 أثناء عقد منتدى الابتكار في مجال الدفاع العسكري (FID)، وهي تعرض العقيدة العسكرية الجديدة للجيش الفرنسي، أن الرواية أو المعلومة الكاذبة أو المتلاعب بها أو المضللة هي سلاح، إذا تم استخدامه بحكمة، يسمح للمنافسين والأعداء بالفوز دون قتال، إنها «شكل جديد من أشكال التهديد يجمع بين قدرات التلاعب بالمعلومات والتضليل، وعلم التحكم الآلي وعلم النفس والهندسة الاجتماعية والتكنولوجيات الحيوية والتي يمكن تلخيصها في شكل جديد من أشكال الحرب: «الحرب المعرفية أو الإدراكية» والتي تتلخص في القدرة على استغلال نقاط ضعف العقل البشري لكي يهاجم نفسه. وبالتالي، أصبح مكافحة المعلومات المضللة والسرديات المؤججة للتوترات والكراهية والاعتداءات المعرفية التي تضخمت بفعل الثورة الرقمية أكثر أهمية من أي وقت مضى للجيوش نظراً لأن تلك المعلومات المضللة باتت تحسم المواجهات والمنافسات الاستراتيجية.
في هذا السياق، تستهدف وزارة الدفاع الفرنسية من وراء تشكيل الفريق الأحمر وضع الخيال العلمي في خدمة التفكير الاستراتيجي العسكري، وهو فريق يتكون من كُتّاب الخيال العلمي الفرنسي المرموقين، ويخضع لإشراف وكالة الابتكار الدفاعي (AID) بالتعاون مع هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة (EMA) والمديرية العامة للتسليح (DGA) والمديرية العامة للعلاقات الدولية والاستراتيجية (DGRIS) ويتعاون مع شركات التكنولوجيا الفرنسية الحديثة. والغرض من تكوينه هو أن يقدم لوزارة الدفاع الفرنسية رؤي استشرافية من أجل توقع المخاطر التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي من المحتمل أن تولد صراعات محتملة بحلول عام 2030-2060 وأن يبتكر وسائل مجابهتها.
يضع الفريق الأحمر إذاً خياله (القابل للتصديق والمتجذر في الواقع) في خدمة وزارة القوات المسلحة الفرنسية، وذلك بعرض سيناريوهاته المستقبلية في شتى المجالات ذات الصلة بالاستراتيجية على وزارة الدفاع الفرنسية، مما قد يغير في القريب العاجل في اليقينيات الاستراتيجية والتكتيكية الحالية للجيش الفرنسي والهيئات التابعة له، وذلك بدمج الحرب المعرفية بقدرات الهندسة السيبرانية والمعلوماتية والنفسية والاجتماعية لتحقيق الدولة الفرنسية.
من بين مؤلفي الخيال العلمي الفرنسي الذين تم اختيارهم Laurent Genefort، الذي ألف حوالي 50 رواية والفائز أكثر من مرة بجائزة Grand Prix de l’Imaginaire للخيال العلمي في فرنسا. وبهذه المناسبة صرح قائلاً: «فتحت وزارة الدفاع أبوابها أمامي على مصراعيها، كان الأمر ممتعاً للغاية! «إنه نوع من التدريب الهجين بين الخيال العلمي والاستشراف الاستراتيجي».
يتلخص إذاً عمل الفريق الأحمر في هذا اللقاء بين الخيالي والحقيقي، يقول Emmanuel Chiva أحد قيادات وكالة الابتكار العسكري في وزارة الدفاع الفرنسية والمشرف على الفريق الأحمر، إنه «راضٍ جداً عن النتيجة» وعن التكامل الحاصل بين ضباط الجيش ومؤلفي الخيال العلمي وخبراء التكنولوجيا، «إن دور الفريق الأحمر هو منع العسكريين من النوم»، كما يقول Chiva… و«سننجح في مهمتنا إذا لم يتوقف الجيش عن التفكير للعثور على إجابات للتهديدات المستقبلية».
باختصار يمكننا القول إن وزارة الدفاع الفرنسية تسعى من خلال مشروع Myriade أولاً الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا بعض الدول أكثر عرضة للحرب المعرفية أو الإدراكية؟ كيف تستخدم الدول المعادية الحرب المعرفية أو الإدراكية لتحقيق مكاسب تراكمية؟ ما هي الإستراتيجيات والتكتيكات لمواجهة تلك الحروب؟ وما هي استراتيجيات وتكتيكات شنها؟ وثانياً إعداد وتكوين قيادة عسكرية متكيفة مع البعد المعرفي للصراعات والحروب وقادرة على الانتصار في تلك الصراعات والمعارف وذلك من خلال ثلاثة محاور متكاملة.
يتعلق المحور الأول بضرورة الاحتراز من الاختلالات المعرفية الفردية والجماعية في فرنسا. وهذا يتطلب معرفة وتحديد التحيزات المعرفية الحالية والمستقبلية لوضع خطة لمجابهتها، والمساهمة في وضع برامج التعليم والتدريب وتمارين المحاكاة الدورية الضرورية للتحوط ضد «الأخطاء المعرفية» الفردية والجماعية، السيطرة على تدفق المعلومات المؤدي للتنافر المعرفي و»الحمل الزائد للمعلومات» والعثور على التحيزات في الخوارزميات أو قواعد البيانات المستخدمة في الاستشراف، التكامل المتوازن بين الإنسان والتكنولوجيا من أجل الحفاظ على الوضوح وسط تعقيد الحرب أو كما يقول الكاتب الفرنسي Bruno Patino، يجب عدم إطفاء الأضواء الفلسفية لصالح الإشارات الرقمية.
يتعلق المحور الثاني بالدفاع ضد العدوان المعلوماتي الدائم والاستغلال الانتهازي للتحيزات المعرفية للفرنسيين من قبل الخصوم، مما قد يقيد أو يشوه عملية صنع القرار الفرنسي أو يشله تماماً. لقد أدرك منافسونا الرئيسيون نقاط ضعف مجتمعاتنا التي تنتمي إليها جيوشنا. خلال جلسة الاستماع أمام الكونغرس في أبريل 2021، سلط الباحث الأمريكي هربرت لين الضوء على أبرز تلك التحديات وهي: العقلانية المحدودة للفاعلين و«السوق الحر للأفكار» والذي يمكن أن يستغله منافسونا لمصلحتهم باستغلال المسامية بين حدود المعلومات المؤسسية والأجنبية لنشر الروايات الخبيثة عمداً. مجابهة هذه التحديات هي مهمة المجتمع والجيش معاً. لذلك، تتطلب الحرب المعرفية نهجاً متعدد المجالات والتخصصات ويشمل الحكومة بأكملها، مما يعزز تكاملاً أفضل بين المجالات الإلكترونية والمعلوماتية للدفاع عن أحد أهم أصول الديمقراطية وهي المعلومات. على المستوى العسكري البحت، تسعي وزارة الدفاع الفرنسية لأن تكون هياكل القيادة والتحكم لديها أكثر مرونة بما يكفي للاستفادة من التقنيات الحديثة مع الحد من مخاطر الأتمتة والتنافر المعرفي و«الحمل الزائد للمعلومات أو فرط توفرها» قدر الإمكان. تشكل الحرب الهجومية في المجال المعرفي المحور الثالث للجهد المنتظر من تعاون الفريق الأحمر مع وزارة الدفاع الفرنسية، فالحرب المعرفية قائمة على المفاجأة الاستراتيجية من خلال تغييب إدراك الخصم عما يخطط له، وبالتالي، يجب أن تتطور هياكل القيادة والتحكم في الجيش الفرنسي لتعزيز تكامل أفضل لتأثيرات ما سيتفق عليه بينه وبين الفريق الأحمر في جميع المجالات. والولايات المتحدة الأمريكية سباقة في هذا المضمار، فعلى سبيل المثال، تم إنشاء فريق عمل متعددة المجالات والتخصصات من قبل الجيش الأمريكي، وهي كتيبة I2CEWS، حيث تشمل (الاستخبارات والمعلومات والسيبرانية والحرب الإلكترونية والفضاء) جنباً إلى جنب مع كتيبة من الدفاع الجوي… إلخ.
الخاتمة
في طور تحول عالمنا المعاصر إلى عالم متعدد الأقطاب، من المرجح أن تنتهج القوى الصاعدة استراتيجيات جديدة من بينها الحرب المعرفية أو الإدراكية والتي تمثل مجرد بداية لعصر جديد من الصراعات والمنافسات، فكما يؤكد تقرير «كيف يرى مجلس المخابرات الوطني الأمريكي العالم عام 2040»، على مستوى الأفراد والمجتمعات، «سيتزايد التشرذم والتنافس داخل المجتمعات حول القضايا الاقتصادية والثقافية والسياسية. أما التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية السريعة فستجعل قطاعات كبيرة من سكان العالم تعادي المؤسسات والحكومات التي سيرونها غير راغبة أو غير قادرة على تلبية احتياجاتهم. وسينجذب الناس أكثر فأكثر إلى المجموعات والتنظيمات والمؤسسات المألوفة لهم ومتشابهة التفكير مع أفكارهم التقليدية، بما في ذلك القائمة على الهويات العرقية والدينية والثقافية وكذلك تجمعات المصالح والدفاع عن قضايا محددة، مثل حماية البيئة».
كما أن «تنامي ولاءات الهوية من جانب، وبيئة المعلومات المنعزلة من جانب آخر سيؤدي إلى تفاقم التصدعات داخل الدول، ويقوض القومية المدنية، ويزيد من التقلبات». لا بد إذاً في هذا السياق من تحور دور الجيوش أمام تلك المخاطر والتحديات، وذلك بإدماج مواجهة الحروب المعرفية والإدراكية التي تشن ضدهم ممن يمكن تسميتهم بـ «القتلة الفكريون أو المعرفيون» epistemological hitmen أو intellctual hitmen الذين يستهدفون الاغتيال المعرفي للأمم.
وعلى الجيوش أيضاً اعتبار أن الحماية والذود عن رأس المال الاجتماعي ينطوي بامتياز تحت مظلة مفهوم الأمن القومي مثله مثل حماية الحدود، مَن يعتدي عليه كالذي يعتدي على الحدود الجغرافية للدول.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح
(باحث رئيسي ورئيس وحدة متابعة الاتجاهات المعرفية في العالم بتريندز للبحوث(